السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
الحمد لله علام الغيوب..الحمد لله الذي تطمئن بذكره القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعز مطلوب، وأشرف مرغوب..وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وبعد،،،
فإن رقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن، وعطية من الديّان؛ تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزاً وحصناً من الغي والعصيان.. ما رقّ قلب لله إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات، مشمراً في الطاعات والمرضات.. ما رقّ قلب لله وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكِّر إلا تذكر، ولا بُصِّر إلا تبصر.. ما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئناً بذكر الله، يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه .. وما رق قلب لله إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله .
فالقلب الرقيق قلب ذليل أمام عظمة الله وبطش الله تبارك وتعالى.. ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفاً وخشية للرحمن .. ولا جاءه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص ذلك القلب من خشية المليك سبحانه.
القلب الرقيق صاحبه صدّيق وأي صدّيق..القلب الرقيق رفيق ونعم الرفيق.
ولكن من الذي يهب رقة القلوب وانكسارها؟ ومن الذي يتفضل بخشوعها وإنابتها إلى ربها ؟
من الذي إذا شاء قلَبَ هذا القلب؛ فأصبح أرق ما يكون لذكر الله، وأخشع ما يكون لآياته وعظاته؟ من هو؟
سبحانه لا إله إلا هو.. القلوب بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فتجد العبد أقسى ما يكون قلباً، ولكن يأبى الله إلا رحمته، ويأبى الله إلا حلمه وجوده وكرمه.. حتى تأتي تلك اللحظة العجيبة، التي يتغلغل فيها الإيمان إلى سويداء ذلك القلب بعد أن أذن الله تعالى أن يصطفى ويجتبى صاحب ذلك القلب.
فلا إله إلا الله ! من ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة! ومن أهل القسوة إلى أهل الرقة ! بعد أن كان فظاً جافياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، إذا به يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه..إذا بذلك القلب الذي كان جريئاً على حدود الله، وكانت جوارحه تتبعه في تلك الجرأة.. إذا به في لحظة واحدة يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يتغير لكي يصبح متبصراً يعرف أين يضع الخطوة في مسيره.
إنها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمة أجل ولا أعظم منها، نعمة رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى.
وقد أخبر عز وجل أنه ما من قلب يُحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله، قال سبحانه:} فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ... (22) { [سورة الزمر] ويل: عذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله، ونعيم ورحمة، وسعادة وفوز لقلوب انكسرت وخشعت لله.
لذلك – إخواني في الله – ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر كيف السبيل لكي يكون قلبي رقيقاً؟
كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة؛ فأكون حبيباً لله، ولياً من أوليائه؟ لا يعرف الراحة والدعة والسرور إلا في محبته وطاعته سبحانه، لأنه يعلم أنه لن يُحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير شيئاً كثيراً.
والقلوب شأنها عجيب وحالها غريب: تارةً تقبل على الخير، وإذا بها أرق ما تكون لله عز وجل، وداعي الله.
لو سُئلت أن تنفق أموالها جميعاً لمحبة الله لبذلت، ولو سئلت أن تبذل النفس في سبيل الله لضّحت..إنها لحظات ينفح فيها الله عز وجل تلك القلوب برحمته.. وهناك لحظات القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه، ويتألم فيها فؤاده، حتى يكون أقسى من الحجر والعياذ بالله.
أسباب، رقة القلب:
المعرفة بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته: فما رق القلب بسبب أعظم من سبب الإيمان بالله تعالى.. ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقاً لله عز وجل، وكان وقّافاً عند حدود الله؛ لا تأتيه آية من كتاب الله، وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا قال بلسان الحال والمقال:} سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285){ [سورة البقرة]..فما من عبد عرف الله بأسمائه الحسنى، وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه إلا وجدته إلى الخير سباقاً، وعن الشر محجاماً.. فأعظم سبب تلين به القلوب لله عز وجل، وتنكسر من هيبته: المعرفة بالله تبارك وتعالى، فمن عرف الله؛ رق قلبه من خشية الله .
والعكس بالعكس: فما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله، وعذاب الله، وأجهلهم بنعيم الله عز وجل ورحمته.. حتى إنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكون من رحمة الله، وأيئس ما يكون من روح الله - والعياذ بالله- لمكان الجهل بالله.
فلما جهل الله تجرأ على حدوده، وتجرأ على محارمه، ولم يعرف إلا ليلاً ونهاراً، وفسوقاً وفجوراً، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا الذي يعده هدفاً في وجوده ومستقبله.
لذلك: - أحبتي في الله- المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، وكل ما وجدت الإنسان يديم العبرة، يديم التفكر في ملكوت الله، كلما وجدت قلبه فيه رقة، وكلما وجدت قلبه في خشوع وانكسار إلى الله تبارك وتعالى.
النظر في آيات هذا الكتاب: النظر في هذا السبيل المفضي إلى السداد والصواب..النظر في كتاب وصفه الله بقوله:} كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1){ [سورة هود] ما قرأ العبد تلك الآيات، وكان عند قراءته حاضر القلب، متفكراً متأملًا إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع، والنفس تتوهج إيماناً من أعماقها؛ تريد المسير إلى الله تبارك وتعالى، وإذا بأرض ذلك القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طرية للخير ومحبة الله عز وجل وطاعته.
ما قرأ عبد القرآن، ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها والتأمل فيها رقيقاً قد اقشعر قلبه واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى:} كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23){ [سورة الزمر] .
هذا القرآن عجيب، بعض الصحابة تُليت عليه بعض آيات القرآن فنقلته من الوثنية إلى التوحيد، ومن الشرك بالله إلى عبادة رب الأرباب سبحانه وتعالى في آيات يسيرة..هذا القرآن موعظة رب العالمين، وكلام إله الأولين والآخرين، ما قرأه عبد إلا تيسرت له الهداية عند قراءته، ولذلك قال الله في كتابه:} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(17){ [سورة القمر].
هل هناك من يريد الذكرى؟ هل هناك من يريد العظة الكاملة، والموعظة السامية ؟ هذا كتابنا.
ولذلك:ما أدمن عبد على تلاوة القرآن، وجعل القرآن معه يتلوه آناء الليل والنهار إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.
تذكر الآخرة: أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر..وأن يتذكر أن لكل بداية نهاية، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.. فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة، وأن المتاع فانٍ، وأنها غرور حائل؛ دعاه ذلك إلى أن يحتقر الدنيا، ويقبل على ربها إقبال المنيب الصادق، وعندها يرق قلبه.
ومن نظر إلى القبور، ونظر إلى أحوال أهلها؛ انكسر قلبه، وكان قلبه أبرأ ما يكون من القسوة ومن الغرور؛ ولذلك لن تجد إنساناً يحافظ على زيارة القبور مع التفكر والتأمل والتدبر، إذ يرى فيها الآباء والأمهات، والإخوان والأخوات، والأصحاب والأحباب.. يرى منازلهم ويتذكر أنه قريباً سيكون بينهم، وأنهم جيران بعضهم لبعض قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة.
وأنه قد يتدانى القبران وبينهما كما بين السماء والأرض نعيماً وجحيماً.
ما تذكر عبد هذه المنازل التي ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذكرها إلا رق قلبه من خشية الله.. ولا وقف على شفير قبر، فرآه محفوراً، فهيأ نفسه أن لو كان صاحب ذلك القبر، ولا وقف على شفير قبر فرآى صاحبه يدلى فيه، فسأل نفسه
على أي شيء يُغلق؟ أيغلق على مطيع أم عاصي ؟ أيغلق على جحيم أم على نعيم ؟ فلا إله إلا الله! هو العالم بأحوالهم، وهو الحكم العدل الذي يفصل بينهم.. ما نظر عبد هذه النظرات، ولا استجاشت في نفسه هذه التأملات إلا اهتز القلب من خشية الله، وانفطر هيبة لله تبارك وتعالى، وأقبل على الله إقبال صدق وإنابة وإخبات.
أسباب، قسوة:
الجهل بالله تبارك وتعالى .
الركون إلى الدنيا والغرور بأهلها : وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها، فإن هذا من أعظم الأسباب التي تقسي القلوب، إذا اشتغل العبد بالأخذ والبيع، واشتغل بهذه الفتن الزائلة، والمحن الحائلة، سرعان ما يقسو قلبه؛ لأنه بعيد عن من يذكره بالله. فلذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوغل في هذه الدنيا أن يوغل برفق، فديننا ليس دين رهبانية، ولا يحرم الحلال، ولم يحل بيننا وبين الطيبات، ولكن رويداً رويداً، فأقدار قد سبق بها القلم، وأرزاق قد قضيت، يأخذ الإنسان بأسبابها دون أن يغالب القضاء والقدر..يأخذها برفق ورضاء عن الله تبارك وتعالى، في يسير يأتيه، وحمد وشكر لباريه؛ سرعان ما توضع له البركة، ويكفى فتنة القسوة، نسأل الله العافية منها.
فلذلك من أعظم الأسباب التي تستوجب قسوة القلب: الركون إلى الدنيا، وتجد أهل القسوة - غالباً- عندهم عناية بالدنيا، يضحون بكل شيء: يضحون بأوقاتهم..يضحون بالصلوات..يضحون بارتكاب الفواحش والموبقات..ولكن لا يمكن أن يضحي الواحد منهم بدينار أو درهم منها، فلذلك دخلت هذه الدنيا إلى القلب، والدنيا شُعب، ولو عرف العبد حقيقة هذه الشُعب لأصبح وأمسى ولسانه يلهج إلى ربه:رب نجني من فتنة هذه الدنيا، فإن في الدنيا شُعب ما مال القلب إلى واحد منها؛ إلا استهواه لما بعده، ثم إلى ما بعده حتى يبعد عن الله عز وجل، وعنده تسقط مكانته عند الله، ولا يبالي الله به في أي وادٍ من أودية الدنيا هلك والعياذ بالله.
هذا العبد الذي نسي ربه، وأقبل على هذه الدنيا مجلاً لها مكرماً، فعظّم ما لا يستحق التعظيم، واستهان بمن يستحق الإجلال والتعظيم والتكريم سبحانه وتعالى، فلذلك كانت عاقبته والعياذ بالله من أسوأ العواقب.
الجلوس مع الفساق ومعاشرة من لا خير في معاشرته: ولذلك ما ألف الإنسان صحبة لا خير في صحبتها إلا قسى قلبه من ذكر الله، ولا طلب الأخيار إلا رققوا قلبه لله الواحد القهار، ولا حرص على مجالسهم إلا جاءته الرقة شاء أم أبى، جاءته لكي تسكن سويداء قلبه، فتخرجه عبداً صالحاً مفلحاً قد جعل الآخرة نصب عينيه..لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن يكون ذلك على قدر الحاجة حتى يسلم له دينه، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تهب لنا قلوباً لينة تخشع لذكرك وشكرك، وتطمئن لذكرك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
الحمد لله علام الغيوب..الحمد لله الذي تطمئن بذكره القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعز مطلوب، وأشرف مرغوب..وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وبعد،،،
فإن رقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن، وعطية من الديّان؛ تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزاً وحصناً من الغي والعصيان.. ما رقّ قلب لله إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات، مشمراً في الطاعات والمرضات.. ما رقّ قلب لله وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكِّر إلا تذكر، ولا بُصِّر إلا تبصر.. ما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئناً بذكر الله، يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه .. وما رق قلب لله إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله .
فالقلب الرقيق قلب ذليل أمام عظمة الله وبطش الله تبارك وتعالى.. ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفاً وخشية للرحمن .. ولا جاءه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص ذلك القلب من خشية المليك سبحانه.
القلب الرقيق صاحبه صدّيق وأي صدّيق..القلب الرقيق رفيق ونعم الرفيق.
ولكن من الذي يهب رقة القلوب وانكسارها؟ ومن الذي يتفضل بخشوعها وإنابتها إلى ربها ؟
من الذي إذا شاء قلَبَ هذا القلب؛ فأصبح أرق ما يكون لذكر الله، وأخشع ما يكون لآياته وعظاته؟ من هو؟
سبحانه لا إله إلا هو.. القلوب بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فتجد العبد أقسى ما يكون قلباً، ولكن يأبى الله إلا رحمته، ويأبى الله إلا حلمه وجوده وكرمه.. حتى تأتي تلك اللحظة العجيبة، التي يتغلغل فيها الإيمان إلى سويداء ذلك القلب بعد أن أذن الله تعالى أن يصطفى ويجتبى صاحب ذلك القلب.
فلا إله إلا الله ! من ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة! ومن أهل القسوة إلى أهل الرقة ! بعد أن كان فظاً جافياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، إذا به يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه..إذا بذلك القلب الذي كان جريئاً على حدود الله، وكانت جوارحه تتبعه في تلك الجرأة.. إذا به في لحظة واحدة يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يتغير لكي يصبح متبصراً يعرف أين يضع الخطوة في مسيره.
إنها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمة أجل ولا أعظم منها، نعمة رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى.
وقد أخبر عز وجل أنه ما من قلب يُحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله، قال سبحانه:} فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ... (22) { [سورة الزمر] ويل: عذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله، ونعيم ورحمة، وسعادة وفوز لقلوب انكسرت وخشعت لله.
لذلك – إخواني في الله – ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر كيف السبيل لكي يكون قلبي رقيقاً؟
كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة؛ فأكون حبيباً لله، ولياً من أوليائه؟ لا يعرف الراحة والدعة والسرور إلا في محبته وطاعته سبحانه، لأنه يعلم أنه لن يُحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير شيئاً كثيراً.
والقلوب شأنها عجيب وحالها غريب: تارةً تقبل على الخير، وإذا بها أرق ما تكون لله عز وجل، وداعي الله.
لو سُئلت أن تنفق أموالها جميعاً لمحبة الله لبذلت، ولو سئلت أن تبذل النفس في سبيل الله لضّحت..إنها لحظات ينفح فيها الله عز وجل تلك القلوب برحمته.. وهناك لحظات القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه، ويتألم فيها فؤاده، حتى يكون أقسى من الحجر والعياذ بالله.
أسباب، رقة القلب:
المعرفة بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته: فما رق القلب بسبب أعظم من سبب الإيمان بالله تعالى.. ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقاً لله عز وجل، وكان وقّافاً عند حدود الله؛ لا تأتيه آية من كتاب الله، وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا قال بلسان الحال والمقال:} سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285){ [سورة البقرة]..فما من عبد عرف الله بأسمائه الحسنى، وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه إلا وجدته إلى الخير سباقاً، وعن الشر محجاماً.. فأعظم سبب تلين به القلوب لله عز وجل، وتنكسر من هيبته: المعرفة بالله تبارك وتعالى، فمن عرف الله؛ رق قلبه من خشية الله .
والعكس بالعكس: فما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله، وعذاب الله، وأجهلهم بنعيم الله عز وجل ورحمته.. حتى إنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكون من رحمة الله، وأيئس ما يكون من روح الله - والعياذ بالله- لمكان الجهل بالله.
فلما جهل الله تجرأ على حدوده، وتجرأ على محارمه، ولم يعرف إلا ليلاً ونهاراً، وفسوقاً وفجوراً، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا الذي يعده هدفاً في وجوده ومستقبله.
لذلك: - أحبتي في الله- المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، وكل ما وجدت الإنسان يديم العبرة، يديم التفكر في ملكوت الله، كلما وجدت قلبه فيه رقة، وكلما وجدت قلبه في خشوع وانكسار إلى الله تبارك وتعالى.
النظر في آيات هذا الكتاب: النظر في هذا السبيل المفضي إلى السداد والصواب..النظر في كتاب وصفه الله بقوله:} كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1){ [سورة هود] ما قرأ العبد تلك الآيات، وكان عند قراءته حاضر القلب، متفكراً متأملًا إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع، والنفس تتوهج إيماناً من أعماقها؛ تريد المسير إلى الله تبارك وتعالى، وإذا بأرض ذلك القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طرية للخير ومحبة الله عز وجل وطاعته.
ما قرأ عبد القرآن، ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها والتأمل فيها رقيقاً قد اقشعر قلبه واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى:} كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23){ [سورة الزمر] .
هذا القرآن عجيب، بعض الصحابة تُليت عليه بعض آيات القرآن فنقلته من الوثنية إلى التوحيد، ومن الشرك بالله إلى عبادة رب الأرباب سبحانه وتعالى في آيات يسيرة..هذا القرآن موعظة رب العالمين، وكلام إله الأولين والآخرين، ما قرأه عبد إلا تيسرت له الهداية عند قراءته، ولذلك قال الله في كتابه:} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(17){ [سورة القمر].
هل هناك من يريد الذكرى؟ هل هناك من يريد العظة الكاملة، والموعظة السامية ؟ هذا كتابنا.
ولذلك:ما أدمن عبد على تلاوة القرآن، وجعل القرآن معه يتلوه آناء الليل والنهار إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.
تذكر الآخرة: أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر..وأن يتذكر أن لكل بداية نهاية، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار.. فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة، وأن المتاع فانٍ، وأنها غرور حائل؛ دعاه ذلك إلى أن يحتقر الدنيا، ويقبل على ربها إقبال المنيب الصادق، وعندها يرق قلبه.
ومن نظر إلى القبور، ونظر إلى أحوال أهلها؛ انكسر قلبه، وكان قلبه أبرأ ما يكون من القسوة ومن الغرور؛ ولذلك لن تجد إنساناً يحافظ على زيارة القبور مع التفكر والتأمل والتدبر، إذ يرى فيها الآباء والأمهات، والإخوان والأخوات، والأصحاب والأحباب.. يرى منازلهم ويتذكر أنه قريباً سيكون بينهم، وأنهم جيران بعضهم لبعض قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة.
وأنه قد يتدانى القبران وبينهما كما بين السماء والأرض نعيماً وجحيماً.
ما تذكر عبد هذه المنازل التي ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذكرها إلا رق قلبه من خشية الله.. ولا وقف على شفير قبر، فرآه محفوراً، فهيأ نفسه أن لو كان صاحب ذلك القبر، ولا وقف على شفير قبر فرآى صاحبه يدلى فيه، فسأل نفسه
على أي شيء يُغلق؟ أيغلق على مطيع أم عاصي ؟ أيغلق على جحيم أم على نعيم ؟ فلا إله إلا الله! هو العالم بأحوالهم، وهو الحكم العدل الذي يفصل بينهم.. ما نظر عبد هذه النظرات، ولا استجاشت في نفسه هذه التأملات إلا اهتز القلب من خشية الله، وانفطر هيبة لله تبارك وتعالى، وأقبل على الله إقبال صدق وإنابة وإخبات.
أسباب، قسوة:
الجهل بالله تبارك وتعالى .
الركون إلى الدنيا والغرور بأهلها : وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها، فإن هذا من أعظم الأسباب التي تقسي القلوب، إذا اشتغل العبد بالأخذ والبيع، واشتغل بهذه الفتن الزائلة، والمحن الحائلة، سرعان ما يقسو قلبه؛ لأنه بعيد عن من يذكره بالله. فلذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوغل في هذه الدنيا أن يوغل برفق، فديننا ليس دين رهبانية، ولا يحرم الحلال، ولم يحل بيننا وبين الطيبات، ولكن رويداً رويداً، فأقدار قد سبق بها القلم، وأرزاق قد قضيت، يأخذ الإنسان بأسبابها دون أن يغالب القضاء والقدر..يأخذها برفق ورضاء عن الله تبارك وتعالى، في يسير يأتيه، وحمد وشكر لباريه؛ سرعان ما توضع له البركة، ويكفى فتنة القسوة، نسأل الله العافية منها.
فلذلك من أعظم الأسباب التي تستوجب قسوة القلب: الركون إلى الدنيا، وتجد أهل القسوة - غالباً- عندهم عناية بالدنيا، يضحون بكل شيء: يضحون بأوقاتهم..يضحون بالصلوات..يضحون بارتكاب الفواحش والموبقات..ولكن لا يمكن أن يضحي الواحد منهم بدينار أو درهم منها، فلذلك دخلت هذه الدنيا إلى القلب، والدنيا شُعب، ولو عرف العبد حقيقة هذه الشُعب لأصبح وأمسى ولسانه يلهج إلى ربه:رب نجني من فتنة هذه الدنيا، فإن في الدنيا شُعب ما مال القلب إلى واحد منها؛ إلا استهواه لما بعده، ثم إلى ما بعده حتى يبعد عن الله عز وجل، وعنده تسقط مكانته عند الله، ولا يبالي الله به في أي وادٍ من أودية الدنيا هلك والعياذ بالله.
هذا العبد الذي نسي ربه، وأقبل على هذه الدنيا مجلاً لها مكرماً، فعظّم ما لا يستحق التعظيم، واستهان بمن يستحق الإجلال والتعظيم والتكريم سبحانه وتعالى، فلذلك كانت عاقبته والعياذ بالله من أسوأ العواقب.
الجلوس مع الفساق ومعاشرة من لا خير في معاشرته: ولذلك ما ألف الإنسان صحبة لا خير في صحبتها إلا قسى قلبه من ذكر الله، ولا طلب الأخيار إلا رققوا قلبه لله الواحد القهار، ولا حرص على مجالسهم إلا جاءته الرقة شاء أم أبى، جاءته لكي تسكن سويداء قلبه، فتخرجه عبداً صالحاً مفلحاً قد جعل الآخرة نصب عينيه..لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن يكون ذلك على قدر الحاجة حتى يسلم له دينه، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تهب لنا قلوباً لينة تخشع لذكرك وشكرك، وتطمئن لذكرك.